سمو الأمير الحسن بن طلال
السيدات والسادة مع حفظ الألقاب
أحييكم في هذه الأصبوحة العمانية المشمسة الدافئة والجميلة، وأتوجه بالشكر إلى منتدى الفكر العربي لمبادرته على تنظيم هذه الحلقة النقاشية المهمة، وخصوصا في هذا الظرف بالذات؛
كما أشكر سمو الأمير الحسن بن طلال على رعايته لهذه الحلقة ودعوته لإطلاق هذا الحوار الذي يضم مثقفين وأكاديميين وناشطين من المجتمع المدني من العرب والكرد، والذي يهدف أولا وقبل كل شيء إلى تبادل وجهات النظر واستمزاج الآراء لتكوين تصوّر عام، يساعد في تشجيع التقارب والتفاهم والتعاون بـ” تعظيم الجوامع”. وتعزيزها و” تقليص الفوارق واحترامها وخصوصاً لتجسير الفجوة بين أصحاب القرار والسياسيين والمعنيين بالشأن العام بمختلف مواقعهم من جهة، والمثقفين والأكاديميين والمفكرين بشكل عام من جهة أخرى ، للقناعة بأن أي تغيير وتنمية حقيقية تحتاج إلى مثل هذا الحوار، فالتفاهم وصولاً إلى التعاون لما فيه مصلحة لجميع الأطراف. كما إن أي مسعى إيجابي على
هذا الصعيد سينعكس إيجاباً على دول الإقليم وعلى العلاقة التاريخية التي تربط شعوبه.
أيتها السيدات والسادة ،
لم نجتمع كفريقين متناحرين يعرض كل منهما رأيه لكي يتشبث به في إطار منافسة أو مناكفة ، وإنما نجتمع كمثقفين تجمعنا هموم مشتركة ، دون أن يعني ذلك عدم وجود اختلاف بيننا حول التاريخ واللحظة الراهنة وحول المستقبل وهو أمر طبيعي، لا بد من الإقرار به مع تأكيد المشتركات الإنسانية التي هي الأساس في العلاقة العربية الكردية وينبغي أن تكون كذلك في علاقات دول الإقليم مع بعضها، خصوصاً وأن شعوب المنطقة جميعها تتطلع إلى تحقيق تنمية مستدامة وذات بعد إنساني قوامها التحرر والحرية والمساواة والعدالة، ولاسيما الاجتماعية والمشاركة والشراكة في تقرير مصيرها، ولن يتحقق ذلك دون إقامة علاقات سلمية أساسها الأخوة وحسن الجوار والمنافع المتبادلة والمصالح المشتركة وقد كان شعار الحركة الوطنية العراقية منذ الثلاثينات ” على صخرة الأخوة العربية – الكردية تتحطم مؤامرات الاستعمار والرجعية”.
إن ما يجمع العرب والكرد وشعوب المنطقة الأخرى من فرس وترك الكثير، الذي يمكن البناء عليه في إطار مشروع لحوار أوسع يمكن أن يضم مثقفين من هذه “الأمم” في المنطقة، ويمكن أن يتسع ليشمل كيانات أخرى تصب في ذات الاتجاه والتوجه، وهو ما دعا سمو الأمير الحسن إلى إطلاق دعوة للحوار بين القوميات الكبرى في الإقليم .
وإذا كانت الأمة العربية قد عانت من التقسيم الذي استهدف تفتيتها وتوزيعها على دول، بل وضع حواجز أمام اتحادها ووحدتها، فإن الأمة الكردية، هي الأخرى تعرضت للتجزئة، حيث يتوزع الكرد على أربعة بلدان هي تركيا وإيران والعراق وسوريا. وكلا الأمتين العربية والكردية ، تعرضتا إلى مؤامرة سرية نفذتها الدول الإمبريالية خلال الحرب العالمية الثانية، حيث تم توقيع اتفاقية سايكس – بيكو من وراء ظهر الأمتين العام 1916 بين بريطانيا وفرنسا، وكانت في البداية قد انضمت إليها روسيا، لكنها أعلنت خروجها منها، ومن مبدأ الاتفاقيات السرية بعد الثورة البلشفية العام 1917. وكانت تلك الاتفاقية التفافاً على الوعود التي أطلقها الحلفاء حين اندلعت ثورة الشريف حسين العام 1916، بمنح العرب الاستقلال وتأسيس دولة عربية موحدة ، مثلما كانت اتفاقية لوزان العام 1923 لصالح تركيا قد سوفت اتفاقية سيفر العام 1920 التي اعترفت بجزء من حقوق الكرد.
وإذا كان حق تقرير المصير كمبدأ قانوني وسياسي معترف به من جانب ميثاق الأمم المتحدة وتقرّه الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، فإنه يبقى هدفا للأمتين العريقتين ، ويعتمد تطبيقه في كل بلد على علاقة الأطراف والقوى السياسية ودرجة التفاهم والتعاون فيما بينها وصولاً لتحقيق الأهداف المشتركة، بل والمصائر المشتركة، الأخذ بنظر الاعتبار التحديات والمخاطر التي تواجه المنطقة من جانب أعدائها والمتربصين بها وفي مقدمتهم “إسرائيل”، التي تستغل الخلافات والمواقف المتعارضة أحيانا بين العرب والكرد لتزيد من تأجيج الصراع وبث روح الكراهية والاحتراب، خصوصاً في ظروف ضعف الثقة والتقاطعات الحاصلة في المواقف، وهو ما ينبغي أن يوضع في أية استراتيجية خاصة للوصول إلى الأهداف المشتركة.
وأستطيع القول أن اللجوء إلى العنف والوسائل العسكرية والحربية والمسلحة لإيجاد حلول للمشكلة الكردية فشلت جميعها سواء من جانب الحكومات التي حاولت هضم حقوق الكرد العادلة والمشروعة والقضاء على الحركة الكردية، أم من جانب الحركة الكردية التي هي الأخرى لجأت إلى السلاح والعنف حتى وإن كان الأمر اضطراراً، وهو ما تحاول بعض الأطراف الإقليمية والدولية دفعها إليه بزعم أنه الطريق الأقصر لنيل حقوقها، لكن العنف والوسائل العسكرية لم توصل جميع الأطراف لنيل غاياتها بقدر ما ساهمت في تعقيد المواقف، خصوصاً وأن تداخلات القوى الخارجية كانت لها بالمرصاد، وقد وجد أعداء الأمتين العربية والكردية فرصاً مناسبة لإضعافهم واستغلال الصراع بما يحرفه عن وجهته الأساسية.
ولهذا السبب ولأسباب أخرى موضوعية، ولاسيما ما يربط العرب والكرد من ديانة وتاريخ وجغرافيا وتواصل حضاري واجتماعي وثقافي وأسري، ناهيك عن المصالح المشتركة والجامعة بينهما منذ مئات السنين، والتي لم تشهد حروباً أو تطاحنات حادة منذ الفتح الإسلامي وحتى قيام الدولة العراقية الحديثة العام 1921 ، لا بد من اعتماد الحوار وسيلة أساسية لحلول دائمة وراسخة وعادلة على أساس ” حق تقرير المصير” والبحث عن صيغ مناسبة لتطبيقه على صعيد قانوني ودستوري وانسجاماً مع التطور الدولي.
جدير بالذكر أن مثل هذه الدعوة بدأت تقتنع بها أطراف أوسع من الحركة السياسية العراقية، ومنذ العام 1992 تبنت المعارضة في الخارج فكرة الفيدرالية تطويرا لفكرة “الحكم الذاتي” وهو ما تم إقراره في الدستور الدائم العام 2005 بعد الاحتلال). وكان أول دستور عراقى يعترف بشراكة العرب والأكراد هو دستور العام .1958. أما دستور العام 1970 فقد كان أكثر تطوراً منه حين اعترف بوجود قوميتين رئيسيتين في العراق، وذلك بعد بيان 11 آذار (مارس) العام 1970 وعلى أساسه صيغ قانون الحكم الذاتي العام 1974 ولكن للأسف فقد اندلع القتال واستمر لنحو عام ولم يتوقف حتى توقيع اتفاقية الجزائر العام 1975 بين نائب الرئيس العراقي صدام حسين وشاه ایران محمد رضا بهلوي، حيث استمر بعدها مسلسل القمع والاضطهاد وارتفعت وتيرته خلال الحرب العراقية – الإيرانية العام 1988-1980 ، كما شهدت حملات تهجير واسعة شملت عشرات الألوف من الكرد الفيلية ومما يسمى “بالتبعية الإيرانية”.
وأتذكر أننا نظمنا حواراً بذات الصفة التي نجتمع فيها اليوم ” الحوار العربي كردي” في إطار المنظمة العربية لحقوق الإنسان في لندن وبكل تواضع كان ” العبد الفقير ” يتولى رئاستها وهو من دعا إلى ذلك، وعلى ما أعتقد كان ذلك أول حوار عربي – كردي قد حصل على صعيد النخب الفكرية والثقافية حين اجتمع 50 مثقفاً عربياً وكرديا ليناقشوا بعض إشكاليات العلاقة حق تقرير المصير، الفيدرالية ، الكونفدرالية، مستقبل قيام دولة أو أكثر، ما هى الالتزامات المتبادلة والحلول المطروحة، وكان الحوار الذي تلاه في القاهرة العام 1998.
وقد نشأت لاحقاً جمعيات للصداقة العربية – الكردية ونظمت لقاءات وفعاليات عامة كان بعضها أقرب إلى إعلانات سياسية، ولكن إشكالية العلاقة والتباساتها ظلت قائمة وتحتاج إلى ديناميكية وحيوية يمكن للمثقفين أن يسهموا فيها لاجتراح حلول ومعالجات أساسها بناء جسور الثقة والتفاهم.
وأعقتد أن رعاية سمو الأمير الحسن لحوار معرفي وثقافي وفكري على هذا المستوى يمكن أن يسهم في بلورة رؤية جديدة، لاسيّما إذا جرى توسيعه وضم فاعلين سياسيين له من العرب والكرد وبحضور شخصيات وازنة من المثقفين العرب، كما يمكن أن يأخذ صيغة مؤسسية وفقاً لآلية يعتمدها وينقذها المنتدى وفي إطار برامجه بالتعاون مع مؤسسات أخرى شقيقة وصديقة وهي رؤية غير ملزمة ، لكن يمكن الاستفادة منها من جانب جميع الأطراف. وكان سموه المبادر لإطلاق هذا النداء الضميري والوجداني للحوار، لقناعته بأهمية المشتركات الإنسانية، لاسيّما بعد أن أصاب التصدّع بعض جوانب العلاقات العربية الكردية، بعد الاستفتاء الكردي في 25 أيلول / سبتمبر الماضي ،2017، ولرغبته في إدامة التواصل والتفاعل والتفاهم والتعاون لتجاوز بعض العقبات والعثرات التي واجهت التجربة الفتية، والتي تحتاج إلى تنازلات متقابلة وحلول وطنية مدعومة عربية، وحوار دائم ومستمر لنزع الفتيل والبحث عن سبل للحلول السلمية بما يعزز وحدة العراق أرضاً وشعباً، وبما يلبي في الوقت نفسه حقوق الكرد وطموحهم المشروع في تقرير المصير، بما يتناسب مع المصالح المشتركة والظروف الملموسة والأوضاع السائدة في دول الإقليم.
وإذا كانت الدعوة قد وجهت إلى هذا العدد المحدود من العراقيين العرب والكرد وعدد من المثقفين العرب من غير العراق وهي دعوة شخصية، فإن الهدف هو فتح قناة للتواصل بحيث يكون مثل هذا الحوار مجساً من مجسات العلاقة يمكن توسيعه وتطويره للتعرف الفعلي والمباشر: ماذا يريد العرب من الكرد ؟ وماذا يريد الكرد من العرب؟ الأمر الذي قد يذهب لوضع تفاصيل تتعلق بالثقافة والأدب والفن والتراث والتاريخ واللغة بما يقوي لحمة العلاقة ويعزز التفاعل، ويسهم في إيجاد الحلول السياسية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإنسانية للمشكلات القائمة بل إيجاد فرص جديدة لبحث مستجدات في هذه العلاقة التى لا يمكن إلا أن تكون متكافئة وعلى أساس الاحترام المتبادل للخصوصيات فى إطار الهوية العامة الجامعة لعراق موحد وذو سيادة ويتجه صوب التنمية.
ولعل من واجب الدولة ، أية دولة تريد سلوك سبيل التطور الديمقراطي الحر والحقيقي، أن ترعى الهويات الفرعية وتمنحها القدر الكافي من التعبير عن نفسها بما تمثله من طاقة وحيوية وحق مشروع و عادل في التعبير عن نفسها بالشكل الذي تريده وينسجم مع المصالح المشتركة.
إن العلاقة العربية – الكردية التاريخية لكي تنمو وتتطور لا بدّ لها من تجاوز الإشكالات القائمة التي نجمت من إقدام إقليم كردستان على إجراء الاستفتاء دون موافقة الحكومة الاتحادية ، ولاسيما في المناطق المتنازع عليها ، وردّ فعل بغداد إزاء خطوة إربيل التي فتحت الملف الشائك والذي يمتد إلى عقود من السنين ، سواء ما يتعلق بكركوك والنفط وإخضاع المطارات ونقاط الحدود لإدارة الدولة الإتحادية، باعتبارها قضايا سيادية حسب الدستور، وهو دستور بحاجة إلى تعديلات بسبب الألغام الكثيرة التي يحتويها ، أو حتى لصياغة دستور جديد، مستفيدين من التجربة وتقاطعاتها وملابساتها.
ولكي تستمر العلاقة وتأخذ مساراً صحيحاً ينبغي أن تقوم على أساس التكامل والتفاعل والتواصل والترابط، وليس الترابح والهيمنة والانفكاك والتفلت، لأن ذلك سيلحق ضرراً بالعرب والكرد، سواء في العراق أم في سوريا أم دول الإقليم، خصوصا وأن المشتركات الجامعة تمثل المحتوى الأساسي لمضمون العلاقة ومستقبلها . ولا بدّ من إدراك حقيقة إن أي احتراب بينهما ينعكس على الوضع الإقليمي كما دلت التجربة التاريخية، ولاسيما إن المستفيد هو أعداء الأمتين الصديقتين
1/3/2018