د. تيسير عبدالجبار الآلوسي: لأخوّة العربية الكوردية تحالف استرتيجي دائم

In آراء


حقيقة العلاقات الثابتة بين العرب والكورد عبر تاريخ المنطقة تظل جلية بارزة في أمثلة كبيرة وعريقة. فالتعايش السلمي لأبناء وادي الرافدين مذ زمن الشعوب السومرية نموذج باهر للعلائق المتينة التي امتدت مع ورثة السومريين من شعوب العراق الوسيط حيث وحدة العرب والكورد في دولة دافعوا عنها بتضحيات وأعمال بطولية مشتركة؛ ظهرت مجددا مع خيار ولادة الدولة العراقية المعاصرة ومن ثمَّ مع خيار استمرار التعايش والتآخي والاتحاد وإجماع أطياف الشعب في العراق الديموقراطي الجديد بركنه الأساس الممثل بفدرالية كوردستان…
لقد أدرك الشعب العراقي أن كفاحه من أجل تحقيق الديموقراطية لا يمكن أن يستكمل من دون خيار الفديرالية التي تمثل مفردة مهمة مخصوصة بطبيعة الدولة العراقية، الحاضن الوطني لجناحي البلاد من العرب والكورد..
كما إنَّ تعزيز الديموقراطية عراقيا لا يمكنه أن يؤتي مفرداته الإنسانية الجوهر من دون تحقيق مطالب المجموعات القومية والدينية التي شادت حضارة هذه البلاد وتاريخها وذلك بحماية هوية هذه المجموعات وشخصيتها بكل عمقها الثقافي الإنساني المخصوص…
نسوق هذه المقدمة بالإشارة إلى رسالة السيد مسعود البارزاني رئيس إقليم كوردستان الموجهة أساسا للقيادات الثقافية والاجتماعية والسياسية العربية تحديدا بسبب من تصاعد الدخان الأسود لتلك الفئة التي دأبت على التجمع والتصعيد ضد الكورد وضد المجموعات القومية والدينية في العراق لاعبة على حبال تأزيم الوضع وتوتيره بما يصب في توفير أغطية مناسبة لاستمرار أفعالهم المعادية للديموقراطية تلك الأفعال الشائنة في البلاد…
إنَّ توجيه سهام الحرب ضد الكورد ستظل حالة حرب ضد مجموع الشعب العراقي وليس ضد الكورد أو حركاتهم التحررية القومية والتقدمية وهي ليست ضد الزعامات كما يحاول بعضهم بذلك ارتداء طاقية الإخفاء السحرية، بالقول إنه يقصد زعيما أو جهة أو فئة بهذه الذريعة أو تلك من حالات الصيد في المياه العكرة… ذلك أن وجود ثابت العلاقة الجوهرية الراسخة بين العرب والكورد ومجموع الأطياف كافة يعني أن كل ما عدا ذلك يبقى محصورا في أخطاء يمكن معالجتها بالحوار الإيجابي البناء ولا يمكن قبول عدّها تأسيسا لمهاجمة طرف أو شنّ حرب عليه سواء بالتشويه أم بالتجاوز والاعتداء…
فالحقيقة البيِّنة نراها في أن أولئك العنصريين الشوفينيين يحاولون تمرير أفكارهم الخبيثة ممثلة في معاداة تطلعات الشعوب والمجموعات القومية والدينية وهي فعالية سياسية تبدأ بهذه المهمة من تشويه واعتداء ولكنها لا تنتهي عندها؛ لأنَّ جوهرها يكمن في مصادرة الديموقراطية بكاملها والإتيان على استلاب الشعب بكل أطيافه حقوقه في الحياة الحرة الكريمة وذلكم عبر التدرج في حربهم السياسية بتجزئة الأهداف وتقطيعها على مراحل وبالتدرج في إعلان مستهدفاتهم. فإذا كان الأمر يبدأ اليوم بالمندائي والأيزيدي وبالكوردي فإنه لن ينتهي حتى يعيد سطوته اسلاتبدادية وسلطته الدكتاتورية الغاشمة على الجميع…
وهنا بالتحديد مربط الفرس حيث العلاقة الثابتة بين الديموقراطية والفديرالية بين الديموقراطية للعراق الجديد وحقوق أبنائه جميعا بلا استثناء وبمساواة وعدل وإنصاف لجميع فئاته وأطيافه ومكوناته.. لأنَّ من يتحدث عن الديموقراطية سيرتد عنها وسيبقى حديثه مجرد مناورة كلامية أو مخادعة سياسية عندما يبدأ بوضع الاستثناءات والمصادرات وعمليات الاستلاب والانتقاص من حقوق هذه المجموعة القومية أو تلك ومن ثمَّ من حال الانتقاص من صلاحية أطراف وهياكل رئيسة تشكل بنية النظام الاجتماعي السياسي في البلاد كفدرالية كوردستان وكذلك في انتقائية سلبية لتطبيق فقرات من الدستور واستثناء أخرى…
وبالعودة إلى منطقهم في الإحصاء العددي الكمي البليد حيث مفهوم أغلبية وأقلية فإنَّ كوردستان وشعبها لا يمكنه أن يدخل في حساب الأقلية بالمنطق الرياضي البسيط وسيكون على أصحاب الطروحات المعادية لقيمة الإنسان وهويته البشرية الإنسانية ممثلة في قيمه الثقافية الحضارية عبر لغته ووجوده القومي الديني أن يراجعوا حساباتهم كيما يمكن قبول الحوار معهم لصياغة خريطة طريق للحياة الجديدة…

إنَّ العيش في العراق الجديد؛ يتطلب الإيمان بعراق ديموقراطي بحق وهذا يعني وجود الفديرالية مبدأ حيويا للسير إلى أمام في علاقة العرب والكورد المبنية على الاعتراف بحقوق الآخر وعلى المساواة التامة والعدل والإنصاف بما لا يسمح بالانتقاص من حقوق العراقي لأنه ليس من الأغلبية العربية أو الأغلبية المسلمة أو الأغلبية من أي لون أو جنس…
فالديموقراطية التي تفضي على المستوى السياسي لنظام الدولة إلى حكم الأغلبية لا تسمح في الوقت ذاته لهذه الأغلبية بالاستبداد أي بقمع الآخر من غير الأغلبية؛ لأننا لا نحيا تحت أدوات عنف الدولة وقمع الدولة بل الدولة تحيا كأداة لتحقيق مطالب الإنسان والجماعات البشرية قومية ودينية وغيرها.. ومن ثمَّ فللدولة في العراق الجديد أن تنتبه إلى أسس الدستور الدائم الذي إذا جرت فيه تغييرات فستكون لمزيد من الاستجابة للعراقي الإنسان بما يرتقي بالمواطن إلى الاعتزاز بالمواطنة لأنها تعني احترام وجوده إنسانا ومن ثمَّ احترام وجوده مجموعة قومية أو دينية أو مذهبية أو اجتماعية أو سياسية ووجوده في تشكيلاته الإدارية والسياسية الحرة المعتدّ بها دستوريا قانونيا…

وفي ضوء هذه الحقائق لابد للسياسي العراقي ولرجل الدولة أن يُلزِمَ نفسَه بمبادئ الدستور حتى لو لم يؤمن بها لأن السلطة هنا للقانون وليس لشخص أو فئة أن يكون أعلى من القانون أو فوقه حتى لو كان أغلبية أو ممثلها، فقد ولى زمن الاستبداد من أيّ نمط ونوع…
وعلى الجهات التشريعية أن تنهض بمسؤوليتها في محاسبة من يخرج على القانون حتى لو كان بتصريح أو بكلمة وحتى لو جاء من شخص يحتل منصبا رفيعا؛ فالوضع لا يحتمل مزيدا من التخريب.. وإلا فعلى المدافعين عن حقوق الإنسان وأصدقاء الشعب العراقي تحديدا منهم المدافعين عن حقوق المجموعات القومية والدينية، عليهم أن يتصدوا لمثل حالات اختراق حقوق الآخر أو الاعتداء عليها وأن يتجهوا إلى القضاء لتفعيله وجعله يأخذ مهامه في إنصاف الحق والحقيقة…
وإلى جانب هذا وذاك سيبقى على الديموقراطيين العراقيين أن يدافعوا بلا هوادة عن وجودهم وعن قيم الدستور وحقوق الإنسان وعن العراقيين عامة وحقهم في الديموقراطية التي لا تكتمل من دون الفديرالية وطبعا ينبغي أن يجري التثقيف بمعنى استقلالية العراقي والمجموعات القومية وحق إدارة حياته فردا أو مجموعة في بيته أو في إقليمه بكامل المطالب والحقوق التي يحفظها الدستور ويرسمها بدقة القانون نصا وروحا ديموقراطيا…

وفي هذا الإطار يمكننا أن نشير إلى أن كل تحرك جرى في ظل الادعاء بالحفاظ على حكومة مركزية قوية أو بصلاحيات (المركز) على حساب (ما يتم تسميته الأطراف) إنما يمكن أن يكتنفه اعتداء على الديموقراطية عند إغفاله مواد الدستور والقواعد القانونية التي تحكم العلائق بين جميع المكونات والأطراف..
كما أن قوة المركز لا تأتي من زيادة صلاحياته على حساب صلاحيات الأقاليم والمحافظات، ولا العكس بالضرورة هو صحيح بل الصحيح الاحتكام للقانون وللدستور؛ والاحتكام إلى توطيد الثقة بين الجميع وإلى تعزيز سلطة القانون بما يكفل منع الاستبداد للأغلبية من جهة ومنع الأخطاء من أية جهة في تطبيق القانون.. إذ القضية يجب أن تبقى بعيدة عن شخصنتها في زعامات وقيادات ومسؤولين وجهاتهم الحزبية والفئوية بل هي قضية مؤسسات محكومة في علاقاتها بقانون؛ وخطأ المسؤول الفرد لا يعني تعريض أهله أو فئته أو حزبه للطعن والتشويه واستلاب الحقوق والمصادرة أو المهاجمة…

وعليه ففي مثال تحريك السيد رئيس الوزراء للجيش في مناطق بعينها ينبغي أن تبقى تحت مراجعة دستورية وقانونية. وتصريحاته وبعض مستشاريه بشأن صلاحيات للمركز على حساب الإقليم تظل مردودة لتجاوزها من جهة على القانون ولتأسسها على قواعد خطاب ولى زمنه في عراق يحاول السير في طريق ديموقراطي يحفظ للجميع حقوقهم على أساس من العدل والمساواة …
ونحن لا نصب الزيت في نيران العداوة والبغضاء حتى عندما يخطئ مسؤول أو زعيم حكومي أو حزبي ولا نجد ذلك سببا للتصعيد والدخول في حال من الاحتراب بقدر ما يدعونا الأمر لمراجعات وحوارات جدية مسؤولة ترتقي لمستوى المهام المكلف بها المعنيين لحين دورة انتخابية تالية لمسؤولين يواصلون معالجة الأمور تحقيقا لمطالب الجميع وإنصافهم…
وفي ضوء ذلك تظل العلاقة العربية الكوردية بخاصة منها في العراق الجديد، علاقة استراتيجية ثابتة تقوم على أسس حضارية مدنية وقواسم ثقافية وإنسانية مشتركة ومسارها التاريخي يمثل الركن الجوهري للتعايش السلمي والتعاضد بالضد من أخطاء سياسية حكومية وبالتأكيد بالضد من أعداء هذه العلاقة الاتحادية الإنسانية بين شعبين وقوميتين لهما حرية الخيار المستقلة على أساس من العدل والمساواة والإخاء…
وسيبقى موقف المثقفين العرب والكورد مسؤولا إنسانيا عن تعميد ثقافة التآخي ومحو تشويهات الشوفينية والاستعلاء واعتداءات العنصريين ومحاولاتهم شق الصفوف أو التعرض لقوى التحرر الوطني والقومي في فريقي الوجود العراقي من الديموقراطيين…
فلقد ناصر مثقفو العربية وقواها التحررية، القضية َ الكوردية ومطالب الكورد في حياة إنسانية حرة كريمة بعيدة عن أي شكل من أشكال الانتقاص والتشويه وسيبقون الحليف الاستراتيجي الثابت حيث مصالح العراقيين كافة تدوم وتعلو بناء على خيار ديموقراطي فديرالي راسخ في العراق الجديد..
وبناء على هذه الحقيقة يجدون أنّ مؤتمرا وطنيا مستمر الانعقاد على دورات متعددة لتعزيز فكرة المصالحة الوطنية ومتابعتها ولتعزيز مسار تطبيق بنود الدستور كافة ومنها تحديدا ما يرتبط بالقضايا التي تمس تصحيح الأوضاع التي اُعتُدي عليها طويلا وتعويض المتضررين من أجل معالجة آثار الجرائم وجراحها؛ وتثبيت حقوق الإقليم والمحافظات وفئات الشعب ومجموعاته القومية والدينية، سيكون ذلكم من الضرورات الحيوية لمتابعة مسار ديموقراطي صحي في العراق…

إنّ هذا المؤتمر سيوفر الأجواء المناسبة لإلغاء تأثيرات سلبية للقوى الشوفينية من جهة وإعلامها التحريضي وتشويشاتها الدعائية المعادية ليس للكورد وحدهم بل وللعراقيين جميعا ومنهم العرب أنفسهم.. كما سيكون مناسبة لإبعاد التأثيرات الخطيرة للتشنجات التي اختلقتها تصريحات غير مسؤولة أو أخطاء إدارية حكومية بحجم غير قليل الشأن وستتجه عبره جميع القوى الحريصة على الوحدة الوطنية ومصالح الشعب العليا إلى الأسلوب الأمثل لمعالجة ما يعترض المسيرة من عراقيل ومشكلات وحلها بطرائق موضوعية ناجعة…
ونحن المثقفين العرب نجد أنَّ الكورد وحركتهم التحررية وقياداتهم القومية التقدمية طالما نادت وأكدت بدعواتها على مثل هذا الاتجاه ويمكن لجميع الأطراف أن تلتقي على وقع تلك الدعوات الإيجابية البناءة وتنتقل للأداء الفعلي التنفيذي لمؤتمر وطني مستمر متعدد الجلسات والدورات ويمكن استثمار دعوة السيد رئيس الإقليم الأخيرة لتكون انطلاقة للمؤتمر ولحملة للديموقراطيين العراقيين كافة لتعزيز مسارات صحية في المرحلة التي يجتازها العراق اليوم.
ونحن نجد ضرورة الارتقاء بوعينا الشعبي والالتفات إلى خطورة تمرير تلك الرؤى التي تحاول زرع الشقاق بين أبناء الوطن من العرب والكورد وإلى محاولات زرع الفتنة وإشعال روح احتراب بدل روح التآخي والوحدة التاريخية الثابتة بين الحليفين الاستراتيجيين العربي الكوردي.. وتلكم ستكون بذرة مسمومة لا ينبغي أن نقبل لها بالنمو فيما يمكننا بمساعينا أن نفضح معدنها وأهدافها ونزرع بديلنا الذي يستجيب لمصالح العرب والكورد ومسيرتهم في التآخي والتفاعل الإيجابي البناء في وطن يزهو بالجميع على مبدأ المساواة والعدل والإخاء…

Leave a reply:

Your email address will not be published.

Mobile Sliding Menu